أجلس أحيانا أمام نفسي كما يجلس المرء أمام مرآة لا تخدع، يتأمل صفحة العمر، ويستعيد ما مرّ عليه من صعودٍ وهبوط، ومن أيامٍ آنست روحه، وأخرى اختبرت صبره. في تلك اللحظات يتبدى لي أن الإنسان لا يُعرَف بما يملك، بل بما يختبره في داخله؛ بما يمرّ على صدره من خواطر، وما يتهذب به قلبه من تجارب تهدي وتوقظ. ومن هذا التأمل تولد الفكرة الأولى: ماذا يعني أن أكون إنسانا؟ هل هو الشكل الذي نبدو عليه؟ أم المعنى الذي نحمله؟ أم الاختيار الذي نقرر به مصائر أفعالنا؟
أقول: أنا إنسان، أعيش في عمرٍ قدّر الله زمانه، وأسعى فيه بما تختاره نفسي، وما يتجه إليه عقلي، وما يطمئن إليه قلبي. يمضي الطريق بين منازل الضعف والقوة؛ ضعفٌ يجعلني أستعين بالله، وقوةٌ تجعلني أتحمل تبعات قراراتي. ولا يُنسب فعلٌ اخترته إلى القدر، لأن الإنسان مسؤول عمّا يفعل، محاسبٌ على ما كسبت يداه.
فمن قتل أخاه الإنسان، لم يحمله القدر على ذلك، بل حملته نفسه التي استسلمت لشرورها. ومن ظلم، فقد اختار الظلم. ومن صدق، فقد اختار الصدق. وهنا تتضح الحكمة: القدر إطار، والاختيار فعل، والإنسان هو الذي يكتب أثره في الأرض. وأتعلم مع الأيام أن القلب يحتاج السكينة، والعقل يحتاج البصيرة. فإذا استقام الميزان بينهما، انطلق الإنسان في دربه بسعيٍ راشد، لا يضلّ عن موضع الحق. فإذا زلّت قدمه عاد بالتوبة، وإذا غلبه هواه استعان بذكْرٍ يدفعه إلى الصواب. وفي كل مرة أراجع نفسي، أجد أن الإنسان يُربّى بالأسئلة قبل الإجابات؛ يسير في طريقٍ تتوالى فيه العبر، وتُلقى في صدره لحظاتٌ تذكّره بما يجب أن يكون. ومن صدق مع نفسه، هُدي إلى صراطٍ لا يعوج، وتبيّن له أن قيمة المرء في أثره، وفي نواياه التي يطهرها، وفي نوره الذي يحمله أينما ذهب.
وحين يهدأ كل شيء من حولي، أصل إلى خلاصة هادئة: أنا إنسان، أُمنح العمر من الله، وأختار فيه ما يليق بالنفس.
أخطئ وأصيب، وأرفع وجهي إلى السماء حين أتعثر، وأمضي في الطريق رجاء أن يكون سعيي شاهدا لي. وأرجو أن ينزل على قلبي من الرحمة ما يردّني إلى الوعي إذا مال بصري، وما يثبت خطوتي على ما أراد الله من عدلٍ ورفق.
وفي آخر القول أهمس لنفسي:
يكفي أن أكون إنسانا يعرف قدره، ويحمل في صدره نورا لا تنطفئ جذوته ما دام يطلب الرشد بقلبٍ صادق.