
سامي العثمان
السعودية… حيث تنهض الرؤية ويُعاد تشكيل الحلم
تشرق الشمس على المملكة، فتتلألأ الرمال الذهبية تحت سماء زرقاء صافية، وتتنفس المدن الكبرى الصعداء بعد عقود من الانتظار، وكأنها تقول للعالم: «ها أنا أستيقظ لأروي قصة جديدة، قصة إرادة تتحرك على الأرض، وحلم يُصنع في كل شارع وزقاق وساحة وسماء». في كل صباح يبدأ اليوم بإيقاع جديد؛ الأبنية الحديثة تتكلم بلغة الزجاج والصلب، والأسواق التقليدية تحتفظ بعبق الماضي، حيث يصدح صوت الباعة ويمتزج برائحة التوابل والبخور، بينما الأطفال يركضون بين الأروقة، والنساء يختارن منتجاتهن بعناية، والرجال يتبادلون أطراف الحديث عن يومهم. كل لحظة تخلق شعورًا بأن الزائر جزء من فسيفساء حية تمتد من الحاضر إلى الماضي، وتدعوه ليكون شاهدًا على حركة الحلم التي تتدفق في شرايين المملكة.
في تسعة أشهر فقط، دخل المملكة واحد وعشرون مليون زائر، كل منهم يحمل تجربة، صورة، ذكرى، وأثرًا في الاقتصاد والحياة الاجتماعية والثقافية. لو أنفقت كل شخصية منهم ألف ريال فقط، فهذا يعني واحدًا وعشرين مليار ريال تم ضخها في شرايين الاقتصاد السعودي خلال فترة قصيرة. لكنها ليست مجرد أرقام؛ إنها نبض حي يوقظ المملكة من سباتها، يجعلها تتحرك بخطى واثقة نحو المستقبل. الاقتصاد هنا ليس مجرد تجارة أو استثمار، بل تجربة حية، إحساس بأن المملكة تتنفس وتعيش مع كل خطوة، وكل سوق صغير وكل شارع رئيسي يحمل بين أرصفته حكايات الحجاج والمعتمرين والمستثمرين والسياح.

في الرياض، المدينة التي لطالما كانت رمز الدولة السياسي والإداري، ينبض اليوم قلب المملكة بقوة اقتصادية متجددة. ست مئة وخمسة وسبعون شركة عالمية لم تنقل فقط مقارها، بل جلبت معها موظفين وعائلات، ثقافات إدارية متكاملة، رؤوس أموال ضخمة، واستراتيجيات تشغيلية دقيقة. كل موظف يفتح مكتبًا صباحًا، يلي ذلك مسجد صغير، مقهى يقدم القهوة العربية، ومكتبة حديثة تعلم لغة جديدة. الشركات جلبت مشاريع صغيرة ستنمو لتصبح مصانع وخدمات، وتعمل هذه الحركة على تغيير ملامح المدينة ليس فقط في البنية التحتية بل في أنماط الحياة: كيف نتعامل، كيف نصنع القرار، وكيف نفكر في الغد. ومن بين الموظفين، تحكي لي منى، مهندسة شابة، عن يومها الأول في الرياض: “شعرت أن المدينة كلها تستقبلنا، وكأنها تقول لنا: ابنوا مستقبلنا معنا”. هكذا تتحول الكلمات إلى واقع، والحلم إلى تجربة محسوسة.
في جدة، البحر الأحمر يمتد كلوحة مرسومة، وتُسمع أغاني الباعة، ورائحة البهارات تتصاعد مع كل نسمة، وأمواج البحر تختم يومًا آخر. الطائف، بجبالها المرتفعة وأشجارها الخضراء، تقدم للزائر شعورًا بالانتعاش والجمال، بينما صحراء الربع الخالي تمد الأفق بلا حدود، لتشعر بعظمة الأرض وهدوءها، وبأن المملكة تستطيع أن توازن بين الحداثة والأصالة، بين النمو الاقتصادي والحفاظ على البيئة، وبين الثقافة التقليدية والانفتاح العالمي. الحجاج والمعتمرون يمرون بين هذه المدن مثل خيوط ضوء تربط الأزمان: طقوس قديمة، ووجوه عصرية، وقلوب تنبض بالدعاء والسكينة، ومع كل خطوة يتركون أثرًا في الاقتصاد والوعي الاجتماعي. يروي علي، أحد الحجاج، تجربته: “كل مدينة مختلفة عن الأخرى، لكن الروح واحدة… شعور بالسكينة والحرية في الوقت ذاته”. هكذا تتحول التجارب الفردية إلى صورة جامعة عن المملكة.
التقنية هنا ليست مجرد تفصيل ثانوي؛ إنها خيط ينسج المستقبل. من خلال سدايا، أُطلق تطبيق «عَلَّام»، أول تطبيق سعودي يفهم العربية بفصيحها ولهجاتها، ينتج نصوصًا، صورًا، وأصواتًا، ويتعاون مع عملاق الذكاء الاصطناعي إنفيديا. هذا التطبيق ليس مجرد أداة، بل رمز لطموح المملكة في السيطرة على مستقبل الذكاء الاصطناعي، وجعل التقنية أداة لبناء المعرفة المحلية، وليس مجرد أداة استهلاك. وفي الجامعات والمراكز البحثية، يعمل الطلاب والمبتكرون على مشاريع تجعل المملكة فضاءً لتجربة التكنولوجيا في التعليم، الصناعة، الزراعة، والرعاية الصحية. تخيل مستشفى يستخدم الذكاء الاصطناعي لرصد الأمراض مبكرًا، أو مزرعة تعتمد على تحليل البيانات لزيادة المحاصيل مع تقليل استهلاك المياه — هذه أمثلة صغيرة لما يتم بناؤه على أرض الواقع. كما يروي خالد، مبتكر سعودي، عن تجربته: “كل يوم أكتشف أن ما كنت أحلم به بالأمس، أصبح مشروعًا واقعيًا اليوم… المستقبل هنا ليس حلمًا، بل فعل متواصل”.
القلب المالي لهذا المشروع الكبير هو صندوق الاستثمارات العامة، الذي ارتفع رأس ماله من ستمائة وسبعين مليار ريال إلى تريليون وثلاثمائة مليار ريال، مع هدف الوصول إلى تريليونين بحلول 2030. هذه الأرقام ليست مجرد وسائل إعلامية، بل آلات إنماء تُشغّل مشاريع بنية تحتية، صناعات جديدة، مدن ذكية، جامعات، مؤسسات ثقافية وفنية، وتستثمر في الخارج لجلب الخبرات وربط الاقتصاد السعودي بعالم الفرص. هذا ليس ترفًا، بل بناء دولة داخل الدولة، حيث تتحقق السياسات على أرض الواقع بخطط مدروسة وممولة.
السعودية اليوم تبني أكثر من اقتصاد؛ إنها تبني صورة، تبني مكانة، تبني إيقاعًا خاصًا بها. تفتح المسارح والمتاحف أبوابها، وتستضيف مهرجانات تدمج بين الفن المحلي والعالمي، وتُنشئ فضاءات للشباب ليبتكروا ويعرضوا أعمالهم. الأسواق القديمة تُرمّم وتُعرض كجزء من التاريخ الحي، بينما المولات الحديثة تضيف طبقات جديدة لتجربة المستهلك. الطعام، الموسيقى، الموضة، وحتى الطقوس اليومية تتلاقى في مكان واحد، فتولد هوية معاصرة تحافظ على الجذور. تقول لي ليلى، طالبة فنون: “عندما أرى الطلاب يعرضون أعمالهم هنا، أشعر أننا نصنع تاريخًا حقيقيًا، لا مجرد دراسة أو معرض مؤقت”.
الناس هم سر الحلم: مهندسون، معلمات، عمال بناء، مزارعون، فنانات، طهاة، باعة، مبتكرون — كل واحد منهم قطعة في لوحة كبيرة. يعملون بلا ضجيج، ويضعون اليوم لبنة لتكون أساسًا لمبانٍ تُرفع غدًا. الحضارة لا تُهدى، بل تُنتزع بالإبداع والصبر. هؤلاء يمنحون الحلم أجنحة حقيقية. الزائر حين يدلف السوق، أو يمشي في ممشى حديث، أو يركب قاربًا في البحر الأحمر، أو يتأمل نجوم صحراء شبه خالية، لا يرى فقط معالمًا؛ يرى أحلامًا تُترجم. ويعود هذا الزائر إلى بلده محملاً بصور وتجارب صادقة تجذب آخرين، فتتزايد الزيارات، وتكبر الحركة الاقتصادية، وتنسج علاقات جديدة بين الناس. هذا تأثير حقيقي في أعماق الاقتصاد والثقافة والوعي.
ما يحدث هنا ليس مجرد مشروع اقتصادي أو حملة سياحية؛ إنه إعادة تعريف معنى الوطن في زمن سريع التغير. الوطن الذي كان يُقاس بالأراضي والموارد صار يُقاس بالقدرة على خلق الفرص، وإشاعة العلم، وصناعة الفنون، واحترام التاريخ، والابتكار في الحاضر. السعودية الجديدة ليست نسخة من مكان آخر؛ هي لوحة فريدة تتسع كل يوم بألوان جديدة، وتدعوك أن تكون شريكًا في رسمها.
إلى الأمام يا بلادي، فالأمم تُقاس بما تصنع لا بما كانت عليه. وهذه البلاد تصنع كل يوم فصلاً جديدًا في حكاية طويلة بدأت بالأمس وتستمر غدًا، بحياة الناس، بمشروعاتهم، بضحكات الأطفال، بصروح الجامعات، بصوامع الفن، وبخطوات الذين يضعون حجرًا واحدًا في المكان الصحيح. هي ليست مجرد حلم، بل فعل مستمر — حلم يتحرك في الشوارع، في المختبرات، في الأسواق، في القلوب. فإذا أردت أن تعرف السعودية اليوم، فلا تكن ناظرًا من بعيد، بل تعال وامشِ بين طرقاتها، واسمع صوتها، وتذوق طعامها، ولاحظ كيف يتحول الحلم إلى واقع ملموس بكل صباح جديد.




