
منقول
في تموز/يوليو الماضي، صنّف الاتحاد الأوروبي رسمياً ‘ الجناح العسكري ‘ لـ «حزب الله» على أنه منظمة إرهابية. وقد كانت تلك خطوة لطالما طال انتظارها، وجاءت لكي توضح لـ «حزب الله» في لبنان بأنه سيدفع ثمناً سياسياً جراء ممارساته الإرهابية المستمرة وأفعاله الإجرامية والقتالية. وعلى مدى عقود كان هناك شعور لدى «حزب الله» بأنه يتمتع بقدر من الحصانة. فقد وقفت أوروبا موقف المتردد أمام تحميله مسؤولية أفعاله بسبب وضعه السياسي داخل النظام السياسي اللبناني ذي التوازن الحساس. إلا أن سقف تجنب مواجهة «حزب الله» لم يتحمل ثقل الأدلة التي تشير إلى أنشطة الحزب على الأراضي الأوروبية – ليس أقلها التفجير الذي خلّف خمسة ضحايا إسرائيليين وسائقهم البلغاري في بورغاس في عام 2012 – الأمر الذي أوضح أن تجنب المواجهة مع «حزب الله» هو موضوع لا يمكن الدفاع عنه.
لقد استند قرار الاتحاد الأوروبي بوضع «حزب الله» على القائمة السوداء جزئياً على المعلومات التي ظهرت في آذار/مارس عندما أدانت محكمة قبرصية عميل «حزب الله» – المواطن يحمل جنسيتين سويدية ولبنانية حسام يعقوب – وحكمت عليه بالسجن لمدة أربع سنوات. وقد أدين يعقوب بتهمة الاشتراك في مجموعة للجريمة المنظمة والتحضير لعمل إجرامي إضافة إلى اتهامات أخرى. وكان قرار رئيس هيئة المحكمة المكونة من ثلاثة قضاة كالتالي: ‘ لقد ثبت أن «حزب الله» منظمة تعمل تحت غطاء من السرية التامة. ليس هناك أدنى شك في أن هذه الجماعة تضم عدة أعضاء وتضطلع بأنشطة مختلفة من بينها التدريب العسكري لأعضائها. لذلك، قررت المحكمة تصنيف «حزب الله» على أنه منظمة إجرامية ‘.
لم تكن هذه سوى أحدث القضايا وأبرزها التي يثبت فيها أمام المحاكم أن «حزب الله» يعمل كمجموعة للجريمة المنظمة في أوروبا. وفي الواقع، كان «حزب الله» يتصرف على هذا النحو لسنوات، حيث اشترك في أعمال إجرامية بما في ذلك الاتجار بالمخدرات وتزييف العملة الأوروبية.
“الجريمة الخطيرة والمنظمة”
ينبع اضطلاع «حزب الله» بالأنشطة الإجرامية من حاجته إلى توفير التمويل وخاصة من أجل التأسيس لاستقلاليته عن مموليه في طهران ودمشق في الوقت الذي يواجه فيه كل منهما حالة من انعدام الأمان المالي. وكانت التقديرات تشير فيما مضى إلى أن «حزب الله» يتلقى ما بين 100 مليون و 200 مليون دولار سنوياً من إيران ومصادر إضافية من سوريا. غير أن هؤلاء الشركاء لم يكونوا على مستوى الكرم المعهود على مدار السنوات القليلة الماضية. إذ تواجه إيران حالياً عقوبات اقتصادية مدمرة فضلاً عن أن الدولة السورية غارقة في حرب أهلية. ومن هنا تأتي أنشطة «حزب الله» الإرهابية التي تهدف إلى سد تلك الفجوة.
ويدير عملاء «حزب الله»إحدى أكبر العمليات الإجرامية وأكثرها تعقيداً في العالم. وقد عملت تلك الأنشطة الإجرامية على تقوية شوكة المنظمة وزادت من صعوبة قدرة الدول الغربية على تقويضها. وحددت هيئة الشرطة الأوروبية الـ “يوروبول” في تقريرها “تقييم تهديد الجريمة الخطيرة والمنظمة” لعام 2013 العديد من ‘ العناصر المساعدة على الجريمة ‘. وشملت تلك العناصر ‘ النقاط الساخنة اللوجستية ومجتمعات المهاجرين والفساد واستخدام الهياكل التجارية القانونية والفرص العابرة للحدود وانتحال الشخصية وتزوير المستندات والعنف ‘. ويستغل «حزب الله»جميع هذه العناصر، ليس فقط في أوروبا، بل في العالم أجمع.
ومعظم ما تم الكشف عنه فيما يخص أنشطة «حزب الله» في أوروبا حتى الآن يأتي من التحقيقات الأمريكية. فلطالما صُنف «حزب الله» كمنظمة إرهابية من قبل الحكومة الأمريكية وهو ما أدى إلى حصول هيئات إنفاذ القانون والمخابرات لديها على السلطة القانونية اللازمة لإجراء التحقيقات على أنشطة «حزب الله». وكان الحال مغايراً لذلك في أوروبا حتى وقت قريب. غير أن جميع القضايا التي تضم «حزب الله» تقريباً هي قضايا عبر وطنية بطبيعتها، الأمر الذي يسمح حتى للمحققين الأمريكيين الفرصة للكشف عن بعض من أنشطة «حزب الله» في أوروبا. ومن المرجح أن تكون هناك المزيد من الأنشطة التي سوف يتم الكشف عنها الآن نتيجة لتغير السياسة الأوروبية تجاه هذا الشأن.
شبكة الكوكايين
استغل «حزب الله» الفرص المتاحة عبر الحدود للاتجار في الأسلحة والأموال النقدية والمخدرات. ففي عام 2008، اعتقلت السلطات الألمانية في مطار فرانكفورت رجلين لبنانيين يحملان أكثر من 8 مليون يورو كانت قد جمعتها شبكة تهريب الكوكايين التابعة لـ «حزب الله». وقد تلقى الرجلان تدريبات في معسكرات تابعة لـ «حزب الله»، إلا أنه لم يتم اعتقالهما بسبب أنشطة إرهابية أو قتالية، بل بسبب الاتجار في الكوكايين. وقد عُثر على آثار للكوكايين على الأوراق المالية، إلى جانب بصمة إصبع لمهرب مخدرات هولندي شهير. وبعد ذلك بعام، تم اعتقال رجلين آخرين من نفس الشبكة تورطا في نقل المخدرات من بيروت إلى أوروبا، وذلك في مداهمة لأحد المنازل في مدينة شباير.
وفي عام 2009، لاحظ الأدميرال جيمس ستافريديس، قائد القيادة الجنوبية الأمريكية آنذاك، وجوداً كبيراً لتجار المخدرات التابعين لشبكات إرهابية في غرب أفريقيا الذي أصبح ‘ نقطة انطلاقهم ‘ إلى أوروبا. وفي أواخر شباط/فبراير 2012، أبلغ يوري فيدتوف، رئيس مكتب الأمم المتحدة لمكافحة المخدرات والجريمة، مجلس الأمن الدولي بأن ‘ طريق النقل في غرب أفريقيا يغذي سوق الكوكايين الأوروبية التي تضاعفت أربع مرات خلال السنوات الأخيرة… وتشير تقديراتنا إلى أن تجارة الكوكايين في غرب ووسط أفريقيا تحقق نحو 900 مليون دولار سنوياً ‘. وقد كشفت التحقيقات الأمريكية عن أن «حزب الله» لاعب رئيسي في نقل المخدرات والأموال من أمريكا الجنوبية إلى أوروبا والشرق الأوسط عبر غرب أفريقيا.
غسل الأموال
في كانون الثاني/يناير 2011، تم تعطيل أحد أكبر مخططات تجارة المخدرات وغسيل الأموال لـ «حزب الله». فقد كشفت وزارة الخزانة الأمريكية عن تورط عميل «حزب الله» أيمن جمعة، إلى جانب تسعة أفراد آخرين و19 شركة. وقد كشف تحقيق لـ “إدارة مكافحة المخدرات” الأمريكية عن أن جمعة كان يقوم بغسيل ما يصل إلى 200 مليون دولار شهرياً من بيع الكوكايين في أوروبا والشرق الأوسط عبر عمليات في لبنان وغرب أفريقيا وبنما وكولومبيا، وذلك باستخدام البيوت لتبادل الأموال، فضلاً عن كميات كبيرة من النقود المهربة ومخططات أخرى. وقد قامت شبكة جمعة بغسيل الأموال من خلال حسابات في “البنك الكندي اللبناني” التي استخدمها لتنفيذ مخططات متطورة لغسيل الأموال قائمة على عمليات تجارية.
مشتريات الأسلحة
كشف “مكتب التحقيقات الفيدرالي” الأمريكي عن مخطط واسع لـ «حزب الله» ليس فقط لبيع العملة المزيفة المزورة والمسروقة، ولكن أيضاً لشراء قائمة طويلة من الأسلحة المتطورة. ووفقاً لمسؤولي إنفاذ القانون، كان مقاتل «حزب الله» حسن كراكي يساعد في أواخر عام 2000 على قيادة مؤامرة إجرامية واسعة لبيع عملات مزيفة ومسروقة إلى عميل سري لـ “مكتب التحقيقات الفيدرالي” كان متنكراً كعضو في عالم الجريمة المنظمة بفيلاديلفيا. وقد كشف مسؤول سري لجماعة من محتالين لبنانيين مشكوك فيهم أنه يستطيع بيع البضائع المسروقة. وقد اشترى أعضاء الجماعة ما كانوا يعتقدون أنه بضاعة مسروقة من العميل السري وأرسلوها إلى وجهات متباينة مثل ميشيغان وكاليفورنيا وباراغواي والبرازيل وسلوفاكيا وبلجيكا والبحرين ولبنان وسوريا وإيران.
ووفقاً للتفاصيل التي كشفها مسؤولو إنفاذ القانون، وكذلك ما ظهر في محاكمة لاحقة في الولايات المتحدة، جاءت الأموال الخاصة بهذه المشتريات من داني طراف، وكيل مشتريات يحمل الجنسيتين الألمانية واللبنانية تابع لـ «حزب الله» ويملك منازل في لبنان وسلوفاكيا. ولم يضيّع طراف الكثير من الوقت قبل استفساره عما إذا كان الوكيل يستطيع توفير صواريخ موجهة و10,000 مدفع رشاش لـ ‘ الصاعقة ‘ من الولايات المتحدة. وبهذا، تسلم المحققون الأمريكيون على طبق من ذهب قضية كبرى لـ «حزب الله» تتعلق بجمع الأموال الإجرامية ومشتريات الأسلحة. وفي مؤامرة موازية، أشرف عليها السياسي في «حزب الله» حسن حدرج، سعى «حزب الله» إلى شراء قائمة طويلة من الأسلحة المتطورة عن طريق مخطط في السوق السوداء يشمل عملاء في جميع أنحاء العالم.
طباعة عملة اليورو على طريقة «حزب الله»
في ضوء شبكة الاتصالات العالمية لطراف، رأى المحققون أنه يعتبر الهدف الأكثر قيمة لعمليتهم. لكن أولويتهم التالية انصبت على ديب حرب، صهر حدرج والزميل المقرب لكراكي. وفي النهاية اقترب مصدر من “مكتب التحقيقات الفيدرالي” من حرب، الذي كشف النقاب عن أن إيران تعمل على تزييف العملات بجودة عالية مستخدمة مرافق في منطقة بعلبك في لبنان، حيث تعمل 18 ساعة في اليوم لإعداد العملات المزيفة لاستخدام «حزب الله». وقد كان حرب يبحث عن مشترٍ للأموال المزيفة.
وكما كشفته تحقيقات الولايات المتحدة، سافر مصدر “مكتب التحقيقات الفيدرالي” إلى بيروت في منتصف شباط/فبراير عام 2009 للقاء رئيس حرب، كراكي، الذي بدا أنه يشعر بالارتياح عند مناقشة أمر «حزب الله» وروابطه الشخصية بالجماعة. وقد عرض كراكي أموالاً مسروقة وأخرى مزيفة وشدد للمصدر على أن العملة المسروقة لا يمكن إنفاقها في لبنان لأنها ‘ دية قتيل ‘ هربها «حزب الله» من إيران عبر تركيا وسوريا إلى لبنان. وقد أُخبر المصدر بأن المبلغ المسروق من العراق هو أقل بقليل من 10,000 دولار. وقد فسّر ذلك سبب حرص «حزب الله» على إنفاق الأموال بكميات صغيرة فقط، وليس في لبنان.
وقد تابع مساعد كراكي الاجتماع، حيث لم يكتفِ بإرسال عينات من العملة الأمريكية المزيفة فئة 100 دولار، لكن أرسل أيضاً أوراق أوروبية فئة 200 يورو. وفي نيسان/أبريل 2009، أرسل كراكي حرب لحضور اجتماع في جنوب ولاية فلوريدا مع المصدر ومع ما يُزعم أنه الرئيس للمصدر في الجريمة في فيلاديلفيا. وقد تفاوض الرجال على شروط بيع العملة الأمريكية المسروقة والعديد من العملات المزيفة. ووفقاً لحرب، شملت أيضاً عملية التزييف التي قام بها «حزب الله»عملة من الكويت والمملكة العربية السعودية والاتحاد الأوروبي. وقد أظهر حرب في مرحلة ما للعميل السري ورقة من عملة الكرونة السويدية عليها بُقع من نظام أمني للصبغ تستخدمه البنوك لتحديد الأموال المسروقة. ووفقاً لحرب، كانت الورقة جزءً من عملية سطو على أحد البنوك وسرقة 2 مليون دولار قام بها أنصار «حزب الله» في السويد. وقد أوضح أن خلايا «حزب الله» تنفذ عمليات سرقة في جميع أنحاء العالم وترسل الأموال إلى إيران، حيث يتم الاحتفاظ بها قبل توزيعها في نهاية المطاف على «حزب الله» في لبنان.
وقد أوضح حرب كذلك أن «حزب الله» لا يقتصر عمله على تزييف العملات فقط، وإنما يشمل تزييف وثائق أوروبية. وكراكي شخصية كبيرة في عمليات التزوير التي يقوم بها «حزب الله» – وهو دور يسمح له أيضاً بإصدار جوازات سفر مزورة ومنح أختام تأشيرة إذا كانت هناك حاجة لها. كما عرض العديد من أشكال جوازات السفر ومن بينها دفاتر أصلية من إيطاليا وجمهورية التشيك. وبعد بضعة أشهر من الاجتماعات في فلوريدا، سلّم حرب وكراكي جوازات سفر بريطانية وكندية مزيفة إلى مصدر “مكتب التحقيقات الفيدرالي” باستخدام الصور والمعلومات البيوغرافية التي كان قد قدمها (من مقابلة أجراها الكاتب مع موظفين مكلفين بإنفاذ القانون، 11 آذار/مارس 2010).
تحدي «حزب الله» لـ الاتحاد الأوروبي
كشفت هذه التحقيقات الأمريكية النقاب عن شبكة إجرامية عالمية ذات وجود رئيسي في أوروبا. وقد أدى اعتقال حسام يعقوب وإدانته في قبرص إلى افتتاح نافذة أخرى حول أنواع الأنشطة التي يضطلع بها «حزب الله». وكان قد تم اعتقاله بعد تنفيذه عملية مراقبة على المطار في قبرص بعد أن ساعد بالفعل على تنفيذ ‘ مهمات ‘ أخرى في فرنسا وهولندا، وذلك باستخدام جواز سفره السويدي الشرعي للعمل كساعي.
وحيث أصبح «حزب الله» أكثر نشاطاً في أوروبا، فقد اتخذ الاتحاد الأوروبي خطوة هامة في بدء مقاومة «حزب الله» من خلال تصنيف جناحه العسكري كجماعة إرهابية. لكن من خلال قصر التصنيف على ‘ الجناح العسكري ‘ لـ «حزب الله» فإن الاتحاد الأوروبي قوّض بشكل قوي من قدرته على مصادرة أية أموال بموجب نظام مصادرة الأصول الذي يطبقه.
ويرجح ألا ترِد حسابات «حزب الله» في أوروبا تحت اسم ‘ الجناح العسكري لـ «حزب الله» ‘. فمن الناحية القانونية، إن أي أموال مرتبطة بـ «حزب الله» لكنها غير مرتبطة صراحة بجناحه العسكري تبقى بعيدة المنال ومحمية في أوروبا. وبما أن الأموال يمكن استبدالها، فسوف يواصل «حزب الله» على الأرجح الحصول على الأموال في أوروبا لكن تحت مظلة الأنشطة السياسية والاجتماعية. إن تحويل الأموال لأغراض أقل ذاتية مثل ميليشيا الجماعة أو الأنشطة الإرهابية لن يكون صعباً، ومن ثم سوف تبقى الأنشطة الإجرامية والإرهابية بمستويات مرتفعة في أوروبا من دون إجراءات حازمة ومنسقة لوقفها.
ماثيو ليفيت, هو مدير برنامج ستاين للاستخبارات ومكافحة الإرهاب في معهد واشنطن ومؤلف كتاب “«حزب الله»: البصمة العالمية الواضحة لـ «حزب الله» اللبناني”. وقد نُشر هذا المقال في الأصل في مجلة فاذُوم في عددها الصادر في خريف 2013.