مركز الحوار الوطني الذي نريد

الإقصاء والتعصب للرأي والمنافحة لأجل المصلحة الخاصة تصب مجتمعة في سلة واحدة، وتتبنى هدفاً واحداً لا يمكن معه أن ينمو الحوار وتتوسع ثقافة القبول بالرأي الآخر.
وحتى نكون أكثر إنصافاً ووضوحاً، فمثل هذه السلوكيات والظواهر الاجتماعية لا تلقن ولا تدرس ولا تظهر في موقع وتختفي في آخر، بل هي نتاج واقعي وحقيقي للدائرة الضيقة التي نعيش فيها وهي المنازل، حيث نتوالد ونوجد ونتزاوج. هناك في الغالب تبذر هذه النبتة وتسقى وتثمر وتقطف، فيكون هناك من يتذوق، وهناك من يلتهم، وهناك من يتحفظ، وربما تحتاج مثل هذه الظواهر الاجتماعية إلى المزيد من الوقت حتى تختفي ليحل محلها الحوار داخل الأسرة الواحدة، وتعويد الأطفال على طرح آرائهم مهما بدت وكيف كانت، وفي المقابل يظهر الكبار أمامهم كالقدوة وهم يتناقشون ويتحاورون ويحترم كل طرف الآخر.
ولعل نتاج هذا المنزل هو من سيتجه للمدرسة والجامعة والعمل والشارع والسوق، وفِي كل موقع تصل إليه القدم ليؤصل لمثل هذه الثقافة التي تحيا بها المجتمعات وتنمو وتتعايش.
الآن، ونحن نشهد الكثير من المتغيرات السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية، كامتداد لهذا العالم الواسع المتغير الذي لن يعيش فيه الضعيف والمسالم والمثالي، لا بد وأن يصحب كل هذه القفزات المفاجئة والمتتالية تنامي للوعي الاجتماعي تجاه تحقيق المصلحة العامة قبل الخاصة؛ فالمصلحة العامة وإن لم تنل منها اليوم شيئاً فستصلك غداً، وإن لم تستفد مباشرة فقد ينال ذلك ابنك أو حفيدك، فالأوطان ليست مشاريع ربحية وقتية يتم إقفالها فيما لو فشلت، بل هي خيار وحيد لا بديل عنه، مهما تبدلت أوضاعها تظل هي الأوطان ربحت أو خسرت.
لدينا في السعودية تجربتان عن تنمية وتأصيل الحوار في الداخل؛ الأولى كانت عبر مشروع ضخم تمثل في مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني، والثانية في مجلس الشورى، بحيث يتم تحت القبة حوار يومي ليس لصناعة القرار ولكن للإسهام فيه.
التجربة الأولى، وأنا أحد من عايش انطلاقتها وتابع مشوارها وشارك في جلسات حوارها، في رأيي الذي يحتمل الخطأ قبل الصواب، بأنها لم تنجح أو على أقل تقدير لم تحقق النزر اليسير من أهدافها السامية التي أنشئت من أجلها، مقابل كل ما يتوفر لها من الدعم والاهتمام، وظل حوار (مركز الحوار) في القاعات المغلقة ولشرائح محددة جداً من المجتمع لا يتجاوز حضورهم في البرنامج الواحد أكثر من ٣٠ إلى ٥٠ شخصاً، وظل على النمطية نفسها تلك يتنقل بها من مدينة إلى مدينة.
صحيح أننا نحتاج إلى الكثير من الوقت لترسيخ مفاهيم الحوار الوطني في شرائح المجتمع كافة في ظل نسيانه لعقود من الزمن، ولكن الأكثر صحة أننا كنا نحتاج إلى كل ذلك الوقت الطويل والإنفاق الكبير المهدر منذ إنشاء المركز في صياغة استراتيجية أكثر قربا من الحالة التي نحتاج إلى علاجها، وعدم اختزال المجتمع في فئات معينة من المنظرين، بل كنّا نحتاج خطوات جريئة تتجه مباشرة نحو الشباب والنشء وتجسيد الحوار في منهج مدرسي يكون ضمن مواد المنهج الذي يدرسه الطلبة، وبطبيعة الحال لا يجاري تجربة منهج التربية الوطنية التي كانت تمثل فكرة عظيمة، ولكن التنفيذ العشوائي والارتجالي قتلها في مهدها.
نتطلع فعلاً مع التشكيل الجديد لمجلس إدارة مركز الحوار الوطني أن يعالج ما سبق، وأن ينتقل بالحوار الوطني إلى المكانة والهدف التي أنشئ من أجلها، حوار نلمسه في حياتنا العامة ونجد أنفسنا نتعاطاه نحن وأبنائنا ومن حولنا، حوار مفتوح بين المسؤول والسائل، بين صانع القرار ومنفذه ومتلقيه، حوار قبل اتخاذ القرارات الكبرى بين وزراء الخدمات وبين المجتمع، بين وزير التعليم والطلاب في المدارس والجامعات، حوار بين وزير العمل وصغار التجار ورواد الأعمال، حوار بين وزير الصحة والأهالي والمتضررين والمتطلعين لمن يسمع معاناتهم وشكواهم، حوار بين أمناء المدن ورؤساء البلديات والسكان.
لم نعد بحاجة إلى مركز حوار يختزل كل أعماله في جلسات الطاولة المستديرة لحديث الساعات الثلاث ثم حفلة العشاء.
أما تجربة الحوار في مجلس الشورى فستكون موضوع مقالة الأسبوع المقبل بإذن الله.